عدد الرسائل : 49 العمر : 45 انت من وين : سوريا متزوج و لا لأ : متزوج شو بتشتغل : صاحب محل تاريخ التسجيل : 08/04/2007
موضوع: ميليشيات في الشوارع والثقافة، أيضاً 2007-04-29, 00:50
في مقابلة أجراها الشاعر حسن نجمي، رئيس اتحاد كتاب المغرب، ونشرتها جريدة القدس العربي اللندنية يوم (التاسع من نيسان/أبـريل) قال محمود درويش: «أنا اتعرض لحملة قاسية جداً من أغلبية الشعراء الفلسطينيين. لاأشعر أن لدي مشكلة مع الشعراء العرب، ولكنني أتعرض دائماً لتشهير، وتكفير، وتخوين من أغلب شعرائنا الفلسطينيين». في هذه الكلمات ألم لا يخفى على أحد. ولو كان للأمنيات الشخصية من مكانة خاصة، في هذا المقام، لتمنيت عليه ألا يتكلم في هذا الموضوع. ففي مجرد الكلام عن موضوع كهذا ما يدخل السرور إلى قلوب هؤلاء، طالما أن أصواتهم سمعت. ولعل فيه، أيضاً ما يحرضهم على طلب المزيد. ورغم أن في الكلام عن هؤلاء ما يغوي باستعادة جمل تراثية عن قذف الأشجار العالية بالحجارة، جرياً على عادة العرب في تعريف البلاغة بما قل ودل، إلا أن بلاغة كهذه، حتى وإن دلت، تظل تقليدية تماماً، وعاجزة عن تفسير ظاهرة تحتاج إلى ما هو أبعد من اختزال الشأن العام في إحتمال سوء الفهم، أو شبهة الخلاف الشخصي. ناهيك، طبعاً عن الأحقاد الصغيرة. ربما تتمكن من تفسير ظاهرة كهذه بطريقة أفضل، إذا وضعنا في الإعتبار حقيقة الأزمة التي يعيشها الفلسطينيون، والعالم العربي منذ سنوات. وهي أزمة غير مسبوقة، تجلت في النسق الفلسطيني في اختطاف القضية والشعب على يد عصابات مسلحة، كما تجلت في العالم العربي في صورة حروب أهلية علنية وشبه علنية. ومن بين ما يصاحب الأزمات، في كل زمان ومكان، من علامات فارقة، فإن القيم الثقافية والاجتماعية هي أول ما يصبح عرضة للنقد والتشكيك. وليس ثمة ما يدعو للعجب، إذ إن الأزمة، في أحد معانيها الكثيرة، ثقافية، أيضاً. ورغم أن عالم الممارسة الثقافية غالباً ما يمارس الترفع، باعتباره أعلى مقاماً من السياسة، إلا أن الممارسات الواقعية لا تختلف كثيراً في الجانبين. فكما يمارس مسلحون القتل والاختطاف باسم القضية، يمارس ممتهنو الكتابة القتل المعنوي، والاختطاف المجازي، باسم القضية، أيضاً. وكما ينصب أولئك الحواجز في الشوارع، ويدققون في هويات المارة، أو يضعون العبوات المتفجرة في الأماكن العامة، ينصب هؤلاء حواجزهم على صفحات الجرائد، أو الانترنت، ويدققون في هويات أشخاص يختارونهم بأنفسهم بحثاً عما يثير الشبهة، او ما يكفل تفجير فضيحة في الحقل الثقافي العام. وكما لايندر أن يطالب الخاطفون بفدية، أو بوظيفة، أو حتى بالاعتراف بمكانتهم في عالم الميليشيات والعائلات المسلحة، يفعل ممتهنو الكتابة الأمر نفسه، أي يطالبون بفدية معنوية، أو يتحول ما ألحقوه بضحية ما من ضرر إلى جزء من مؤهلاتهم العملية للفوز بوظيفة في مكان ما. ولايندر أن يتصرف هؤلاء على طريقة العائلات المسلحة والميليشيات، أي أن يضم تحالف أكثر من شخص لتشكيل ميليشيا ثقافية. المهم، إذا وضعنا مسألة الشكل، أي الممارسة الثقافية على طريقة الميليشيات، وحرب العصابات جانباً، سنحتاج إلى تفسير للدوافع. وبقدر ما يتعلق الأمر بالحملة التي تكلم عنها محمود درويش (وهو أحد أهم صناع الهويتين الوطنية والثقافية الفلسطينيين في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، وأهم الشعراء العرب في مطلع قرن وألفية جديدين) سنجد العديد من الدوافع. الدافع الأول هو الغيرة. قالت العرب، قديماً إن الشعراء ثلاثة: شاعر يجري ولا يجرى معه، وشاعر يخوض وسط المعمعة، وشاعر لا تستحي أن تصفعه. وإذا كان من السهل وضع محمود درويش في مكانة الشاعر، الذي يجري ولا يجرى معه، فمن السهل، أيضاً، العثور بين النوعين الثاني والثالث على أشخاص تملكهم اليأس، أو وجدوا أنفسهم بين أناس لا يمارسون الصفع بدافع الحياء، فأطلقوا لمشاعر الغيرة العنان. وليس لهذا الدافع، أو لأصحابه من أهمية خاصة في جميع الأحوال. لذلك، لا يجب التوقف كثيراً أمام هذا الباب. أما الدافع الثاني فيتمثل في مزاعم الاختلاف السياسي، الحقيقي منه والمفتعل. وفي هذا السياق يمكن الكلام عن بعدين يبدوان للوهلة الأولى مختلفين لكنهما ينتميان إلى النسق الثقافي نفسه. ارتبط محمود درويش، منذ قدمه غسان كنفاني كصوت من أصوات المقاومة في فلسطين قبل العام 1967، بالحركة الوطنية الفلسطينية. وقد نال، بعد هزيمة حزيران (يونيو)، وصعود المقاومة مكانة فلسطينية وعربية لم تجد مبـررها في نصوصه الأولى، بقدر ما وجدته في احتفاء العرب الصاخب بظاهرة المقاومة الفلسطينية. وهذا ما اكتشفه بنفسه، وما حرضه في أواخر الستينات على إطلاق صرخة بعنوان «أنقذونا من هذا الحب القاسي». الصرخة التي كشفت في وقت مبكر عن تعامله مع قضية الشعر بما تستحق من جدية واحترام، وعن ترفع عن أمجاد إعلامية يعرف قابليتها السريعة للعطب والزوال. والمهم، في هذا السياق، أن ما أضافه محمود درويش إلى ما سيعرف لاحقاً باسم شعر المقاومة، كان نجاحه في العثور على المعادلة الذهبية، التي تجعل من الصوت الفردي صدى لصوت الجماعة، بطريقة يتناوبان فيها الحضور. ولم يكن نجاحه في هذا الشأن ممكناً دون خروجه على مجازات الجنة الضائعة، ومخيمات اللاجئين، بمجاز جديد يؤنث الأرض إلى حد تصبح معه العلاقات فردية، وحسية تماماً، وفي الوقت نفسه يضع المجاز على سكة التاريخ بطريقة تجعل من الفردي مجرد واسطة تمكن الجماعة من الحصول على صوتها الخاص. والمفارقة أن هذه المعادلة التي وسمت نتاجه الشعري، وحياته الإبداعية حتى اليوم. هي ما يتعرض غالباً للنقد، بإعتبار أنه ابتعد بتجاربه الشعرية في السنوات الأخيرة عن لحظة البداية، وصورها ومجازاتها، التي ارتبطت في الذاكرة الجمعية بصعود الحركة الوطنية، والمقاومة المسلحة. وهي مفارقة لأن نصوصه الأولى، ونصوصه الجديدة، تصدر في حقيقة الأمر عن المعادلة نفسها: في البدايات وما تلاها كان الشعر أداة لتوليد معنى فلسطين بكل ما لدى اللغة من مهارة القبض على صور وأخيلة محتملة، وفي زمن النضج أصبح بحثاً عن حقيقتها الشعرية، أي في كل ما لدى اللغة من مهارة وأسباب القبض على صور وأخيلة محتملة. وفي الحالتين يتناوب الفردي والجمعي الحضور، ويتبادلان الأدوار. وفي الحالتين يحاول الشاعر تسمية مايرى. لم يسأل ما هو الشعر في البدايات. كان الجواب يجدد نفسه في كل قصيدة. لكنه يسأل ماهو النثر في زمن النضج، والسؤال يجدد نفسه في كل قصيدة لعله يعثر فيها على معنى اللغة. لا تتوقف الميليشيات الثقافية أمام علاقة فريدة ومستمرة بين الصوتين الفردي والجمعي، ولاتعنيها أسئلة اللغة، أو حتى قضية الشعر، بل تشكو ما يقلص من مساحة الحب القاسي، وما يجعل منه عملة غير قابلة للتداول.